حرائق الساحل السوري: ألم الطبيعة وضياء التضامن
سوريا تشتعل… وتتوحد
بين شجر محترق وسماء ملبدة بالدخان، عاد الساحل السوري ليعيش واحدة من أكثر المآسي البيئية إيلامًا في تاريخه الحديث. حرائق ضخمة اجتاحت محافظات اللاذقية وطرطوس وأجزاء من ريف حماة، التهمت معها آلاف الهكتارات من الأحراش والغابات الطبيعية، وأتت على جزء من “رئة سوريا” البيئية. لكن وسط هذا الخراب، كان هناك بصيص أمل وشاهد نادر على التضامن الوطني… كانت هناك سوريا واحدة، متكاتفة.
حجم الكارثة: الطبيعة تدفع ثمنًا باهظًا
تشير التقديرات الرسمية إلى احتراق أكثر من 14 ألف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات في سلسلة من الحرائق المتزامنة منذ أواخر يونيو 2025، وهي الأكبر منذ كارثة 2020. وتأثرت بشدة مناطق مشهورة بجمالها الطبيعي وتنوعها البيئي، مثل صلنفة وكسب ورأس البسيط. إضافة إلى الخسائر البيئية، تسببت الحرائق في إجلاء آلاف الأسر، وانهيار مصادر رزق زراعية كانت تعتمد على الزيتون والحمضيات.
المناخ الحار، والجفاف، والرياح الشديدة كلها عوامل ساهمت في تفاقم الكارثة، لكن غياب الاستعدادات الكافية، وندرة معدات الإطفاء الجوية، زادت من تعقيد الموقف.
لحظة وطنية فارقة: التضامن في وجه النار
رغم ضراوة النيران، ظهرت صورة مشرقة من داخل الظلام. مشهد شبابي – مجتمعي أثار الدهشة والإعجاب.
مئات المتطوعين من مختلف المحافظات السورية – من درعا، حمص، إدلب، إلى ريف دمشق – هرعوا لتقديم يد العون.
من أبرز المبادرات:
- حملة “18 آذار“ التي انطلقت من درعا، وقدمت دعماً لوجستياً ومعنوياً كبيراً لفرق الدفاع المدني.
- مبادرات طلابية في الجامعات السورية جمعت تبرعات وأدوات دعم لرجال الإطفاء.
- شباب وفتيات ساهموا في إخلاء الأهالي، فتح الطرق الجبلية، ونقل المياه.
حتى الدعاء كان وسيلة مقاومة. في لحظة نادرة، لم يسأل أحد عن الانتماء أو الطائفة، بل عن الطريق إلى الجبهة… جبهة النار.
مشاركة دولية محدودة… ولكن مهمة
قدمت الأردن طائرتين للإطفاء كمساعدة عاجلة، وشاركت فرق من تركيا عبر تنسيق محدود في المناطق الحدودية. ومع أن الدعم الدولي لا يزال دون المطلوب، إلا أن الاستجابة الشبابية المحلية كانت أسرع وأكثر تأثيراً على الأرض.
ما وراء الحرائق: هشاشة البيئة ومحدودية الجاهزية
الحرائق سلطت الضوء على نقاط ضعف مزمنة:
- ضعف بنية الدفاع المدني وغياب طائرات متخصصة بالإطفاء.
- نقص في خرائط المخاطر البيئية والوقاية.
- تراجع التشجير وتآكل الغطاء الأخضر بسبب التمدد العمراني والقطع العشوائي.
وفقًا لتقارير UNDP, تؤكد المؤسسات الدولية أن أزمة تغير المناخ والجفاف المتسارع في شرق المتوسط تسهم في جعل الحرائق أكثر عنفًا وانتشارًا.
الدرس الأكبر: الشباب السوري… عماد الاستجابة
تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن تمكين الشباب في أوقات الأزمات يشكل أحد أبرز مفاتيح بناء السلام والتنمية المستدامة. وما شهدناه في الساحل السوري هو ترجمة فعلية لهذه الرؤية. فمبادرات الشباب:
- أبرزت قدرتهم على القيادة والتنظيم حتى في غياب البنى الرسمية.
- عززت الثقة الاجتماعية بين فئات المجتمع، وهو ما تعتبره تقارير مثل دليل “الشباب والسلام والأمن” عنصرًا محوريًا في بناء السلم المحلي.
- خلقت أرضية لتوسيع فكرة “المواطنة البيئية” وربط القضايا البيئية بالمشاركة المدنية الفاعلة.
مستقبل أخضر يبدأ من الآن: ماذا بعد الحرائق؟
الطبيعة ستتعافى، لكن الجرح بحاجة إلى رعاية:
- إطلاق حملات تشجير وطنية بقيادة الشباب.
- تمويل برامج “الاستجابة البيئية الطارئة“ بدعم دولي ومحلي.
- إنشاء مركز وطني للتطوع البيئي على غرار نماذج تمكين الشباب في تونس ولبنان، حسب ما تقترحه تقارير التنمية.
- الاستفادة من الطاقة الشبابية في إعداد خطة وطنية لإدارة مخاطر الكوارث البيئية، بدعم من جهات أممية.
من الرماد… تولد الوحدة
ما حدث في الساحل السوري كان أكثر من حريق. كان اختباراً للذاكرة الجمعية، لروح التضامن، ولحيوية الشباب. والأهم، كان لحظة أمل تُعلّمنا أن وحدة السوريين ممكنة، وأن الشجر سيعود للنمو… كما يجب أن تعود الثقة بالمستقبل.